- نحلي بريس : محسن نحلي.
بسم
الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف
الأنبياء والمرسلين ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وبعد:
يُعدّ فن المديح النبوي من أهم القضايا الشعرية
التي تطرق إليها الشعراء في السنغال
المتقدمون والمعاصرون , ويحتل المرتبة الأولى من الشعر الديني ؛ لأنه يهدف
إلى شخصية أفضل البشر .
ويعدّ من الفنون الشعرية التي ظهرت بظهور الإسلام, والذي
شرب من معينه الصافي بمصطلاحاته, وألفاظه, ومعانيه .
وقد تصدى كثير من الشعراء في السنغال هذا الفن
الأدبي الراقي بل أبدعوا فيه أيما إبداع وعارضوا فيه فطاحل الشعراء كالبوصيري وكعب
بن زهير وغيرهما.
وتأثروا بهما تأثيرا واضحا في قصائدهم, ولاسيما
ميمية البوصيري التي حفظوها منذ أن كانوا صغارا, وهضموا معانيها حتى استقرت في
أذهانهم, وعقولهم .
هكذا سار التقليديون في تجربتهم الشعرية , متمسكين
بالأصالة, والقدم في ألفاظهم ومعانيهم , مما جعلت الرتابة ظاهرة وواضحة في أشعارهم
، والتشابه والتكرار في المواضيع والأخيلة حيث لا يكاد يخلو في أي قصيدة من
قصائدهم .
ولكن كان هناك جيل جديد يظهر في الأفق ، لم يعجبهم
هذا التقليد السافر عند هؤلاء الشعراء القدامى في الألفاظ والمعاني, والأغراض
الشعرية .
بل أخذوا التجديد طريقا ومسلكا لهم في قصائدهم بحيث
يواكب العصر ،ويهتم بالحياة الاجتماعية ويصور الواقع ، ويحوم في كل الآفاق بحيث لا يحدهم عواطف ولا أخيلة .
وقد آثرت أن أشارك بهذا البحث المتواضع للإسهام في
بيان أصداء الشعر السنغالي القديم والمعاصر في المدائح النبوية, وكيف تفاعل
الشعراء معها في بيئتهم الإفريقية في وجدانهم ومشاعرهم .
ويتناول هذا البحث المدائح النبوية في السنغال عند
شعراء التقليد والتجديد ، إذ يظهر جليا حبهم, وتفانيهم لهذا الرسول الأعظم, وذلك
بتصوير أجمل ما عنده من أخلاق ومعان سامية بأسلوب أدبي راق ورصين .
وقد عنونت هذا البحث ( المدائح النبوية بين التقليد
والتجديد) أما المنهج الذي اتبعته في البحث فهو المنهج التكاملي ، وذلك بتحليل
النماذج الأدبية عند الشعراء ووصف ظاهر التقليد والتجديد في أشعارهم ، وسبر جوانب
النقص فيها بالنقد من جهة الأسلوب واللغة الشعرية .
وتقوم خطة البحث على النحو التالي : مقدمة ، تمهيد
، ومبحثين ، وخاتمة .
وقد تناولت في التمهيد :
-
تعريفا مختصرا
للمدائح النبوية .
المبحث الأول: الشعراء التقليديون
المبحث الثاني:الشعراء المجددون.
الخاتمة : وقد تناولت
فيها أهم نتائج البحث.
والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه ، وأن
يجعل النفع فيه إنه قادر على ذلك وصلى الله على سيدنا محمد وسلم تسليما كثيرا.
توطئة:
تعريف مختصر
للمدائح النبوية:
من المعروف أن المدائح النبوية
هي الشق الثاني من الشعر الديني؛ لأنها تتركز في شخصيته صلى الله عليه وسلم .
وهي فن من فنون الشعر التي قويت
وقامت عودها وصلبت عند المتصوفة ، فكانت متنفسا لهم يعبرون من خلالها عواطفهم
الدينية, وتتميز بقوة التجارب وصدق العاطفة لأنها مليئة ومفعمة بحب خير الخلق
أجمعين ([1])
.
رغم ما يلحظ في تضاعيفها من بعض
التجاوزات العقدية, والغلو عند كثير من الشعراء .
ولا نريد أن نقحم أنفسنا في هذه المعمعة الحامية,
وهل تجوز أولا تجوز ولكن مهمتنا الأولى أن نقف على تعريفات
هذا المصطلح ( المدائح النبوية).
ويتكون هذا المصطلح من كلمتين
(المدائح ) ( النبوية ) ونبدأ بالكلمة الأولى وهي : المدائح .
المدائح جمع ومفرده المديح ,وفي
تعريفه يقول علي بن محمد الجرجاني ((هو الثناء باللسان
على الجميل الاختياري قصدًا )) ([2])
.
ونفهم من هذا التعريف أن المدح
ثناء, ويكون باللسان على من أسدى إليك معروفا اختيارا لا إجبارا وفي حال القصد .
النبوية:
نسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وبالتالي نقول إن المدائح
النبوية هي: القصائد التي قيل في ثناء النبي صلى الله عليه وسلم والإشادة به, وذكر
أوصافه, وأخلاقه بعد وفاته.
وهناك فرق بين الرثاء والمديح ،
فكل شعر قيل في أعقاب الموت فهو رثاء، وكل ما قيل بعد الموت بزمن طويل فهو مديح
فنقول : إن حسان بن ثابت رثى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإن البوصيري مدحه ([3])
.
وقد حظي فن المدائح النبوية
المنزلة الكبيرة, والدرجة الرفيعة في أوساط السنغاليين فلا يكاد يخلو أي بيت من البيوتات الدينية ببردة
البوصيري تُدرّس في الكتاتيب ، وتقرأ وتنشد في المحافل الدينية تبركا بها ،ومعارضا
لها ، عند أكثر الشعراء.
وقد أبدى كثير من الشعراء
التقليديين البراعة في المدائح النبوية بل عدوها ملحمة أدبية كبرى , حيث رصدوا
فيها الكثير من النكت البلاغية من استعارات ومجازات وكنايات تدل على المعنى
المقصود بطريقة مختصرة .
ولا يمكن لأي شاعر مهما مسك
زمام الفصاحة والبلاغة أن يصدق في وصفه صلى الله عليه وسلم كما خلقه الله ، إذ إن
مدحه علو وسمو .
ويرى الدكتور حسن
حسين أن المدائح النبوية ولاسيما البردة تحتل منزلة كبيرة ودرجة رفيعة عند كثير من
شعراء الصوفية إذ يعتبر الشعراء المداحون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن
البردة كالدستور للشعر والشعراء فقد نسج على منوالها كثير من الشعراء وعلى الرغم
من أن هذا الاتجاه جديد في مدح خير البرية محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام
إلا أنه لم يكن بالصورة التي كانت عليها بردة البوصيري وقد سارع كثير من الأدباء
والنقاد إلى شرح البردة، كما لقيت هذه القصيدة من الاهتمام والدراسة والبحث
والمقارنة والمعارضة والتنقيب في أغوارها للوصول إلى نفسية وروحانية الشاعر الشيء
الكثير
([4]) .
المبحث الأول : الشعراء التقليديون.
إذا أطلقنا عبارة الشعراء
التقليديون فالمراد منها بالتحديد جماعة كبيرة من الشعراء السنغاليين الذين
انتهجوا في قصائدهم الطريقة القديمة من حيث الشكل والمضمون.
ففي نظام القصيد, وبنائه
استأثروا بالبحور المألوفة, والقوافي المرسلة ، وكان البسيط والطويل ,والكامل
الأكثر حضورا في أشعارهم .
بينما سار أكثرهم على خطى
البوصيري, وكعب في مضامين قصائدهم من وقوف على الأطلال, وتغزل بالمحبوبة ، ثم
الخلوص بذكر أوصافه وأخلاقه صلى الله عليه وسلم والتوسل إليه في أغلب الأحيان.
ولا شك أن الشاعر أحمد بمب
امباكي([5])
قد تصدر على رأس قائمة هؤلاء الشعراء التقليديين إذ ألف
قصائد لا تعد ولا تحصى في المديح منها على سبيل المثال ديوان ( مقدمة الأمداح في
مزايا المفتاح ) ويحتوي ثمانية وتسعون بعد المائة بيتا بحروف (وإنك لعلى خلق عظيم
) ويعد من أكبر شعراء المديح .
ومن جميل شعره قصيدته الرائية
التي يقول فيها :
قلبي له في عتاب الجسم تكرار
يلوم جسمي دأبا في الجلوس بلا إلى قوله:
للكل من جملة الأخيار مرتبة
صلى عليه الذي في الجهر قدمه |
لأنه للهدى والنور جرار
علم ولا عمل والنفس غررا
لكنما أحمد المختار مختار
مسلما طبق ما يهوى ويختار |
قصيدة طويلة وجميلة ، تدرج فيها
الشاعر في عتاب نفسه ، ولومه في تقاعسه, ثم يدخل في وصف حبه ,وشوقه لمحبه بعاطفة
جياشة ، ووجدان صادق.
وللشاعر الحاج مالك سي([6]) قصيدة
مدح جميل سار في بنائها, وتشكيلها على نهج البوصيري ,وكان يعارضه بيد أنه أخفق في
جماليات النص فلم يستطع أن يلحق الأخير في ميدان الإبداع والتصوير.
يقول في تلك القصيدة ([7]):
الحـــــــــــمد لله ذي الإيجاد والقِدَم
ثم الصلاة وتسليم يفوق على وآلــــــــــــــــــــــــه المهتدين الخيرة الكرما |
ممدنا بوجود البدر ذي القِدَم
مسك ورند على ذي الفضل والقَدَم المأتمي سيـــــــرة المختار والقَــــــــــــــــدَم |
وليس بعيدا عن أعين النقاد ما
لهذا النص من مآخذ فنية من حيث الشكل إذ أكثر ألفاظها تتسم بالغرابة وأحيانا
بالتعقيد ، ولكن لا يعني ذلك أن الشاعر قد أخفق في قصيدته.
بل كانت مقبولة على أقل تقدير في هذه الفترة
الزمنية عند كثير من الشعراء التقليديين ، فغرابة الألفاظ ، وتعقيد المعاني ،
وتكثيف ألوان البديع في النص الشعري ، كانت السمة البارزة ,وقمة الإبداع والتألق
عند شعراء هذه الفترة الزمنية في تاريخ الأدب السنغالي.
وإذا ذهبنا غير بعيدين نجد
شاعرا آخر من شعراء الفحول لا يقل شعرية عن سابقيه وهو ماجور سيس الكبير([8])
وكان مكثرا بفن المديح.
وله ميمية بديعية سار فيها على طريقة عز الدين
الموصلي في بديعيته, وعنوانها (النفحات الوردية في مدح سيد البرية) يقول في مطلعها
:
بديع مــــــــــــطلعكم يا جيرة
العـــــــــــــــلم
إن جئت سَلْعا فَسَل عن رِيم رِيمةَ هَلْ أحـــــــَّبة أرَّخوا يــــــــــوم الـــــــــــوداع على |
سنــــــــــــا
بــــــــــــــــــــــــــراعته نار عــــلى عَلَم
بالبان مذ بان عنِّي أو بذي سَلَمِ خَـــــــــدَّيْ خطـــــــــــا بلا رق ولا قَــــــــــلَمِ |
ويظهر التقليد في هذا النص بكل
تفاصيله ، مع تكلف كبير في اقتناص ألوان البديع, ورصده بل وشحنه في القصيد على
حساب المعاني والمضمون .
ولا نكون مخطئين إن أطلقنا القول بأن كثير من
الشعراء التقليدين لم يكونوا موفقين في هذا الجانب ، وإنما كانوا يرددون نفس
المفردات الشعرية القديمة، ولم يستطيعوا تغييرها بما يواكب واقعهم ، وتترجم
مشاعرهم بصدق .
ولكن لا يمكن أن نقول بأن كل
الشعراء التقليديين كانوا على مسافة واحدة ، فمنهم من حاول التحرر من قيود, وربقة
نظام القديم في القصيد, وخطا خطوة نحو التجديد ولو بنزر يسير.
ولا أظن أن أحدا من الباحثين
يغفل عن الشاعر إبراهيم انياس الكولخي ذلك الأديب الذي مسك شعلة الثورة الشعرية في
السنغال حيث طرق كل أبواب الشعر ودخلها بقوة وجدارة .
وقد حاول -وإن تعثر في بعض الأحيان - التجديد في
قصائده المديحية, وخاصة في معجمه الشعري ، وتصويره للواقع الذي يعيشه، وإن وقع مثل
ما وقع غيره في مغبة الغلو, والمبالغات الممقوتة في شخصية الرسول صلى الله عليه
وسلم.
ولعلنا نأخذ مثالا في قصيدته
التي يقول فيها :
طبيبي قريب هل سقامي تسمع
أراني إذا ما جئت يوما محمدا محمد خير العالمين وسيلتي |
يقابلني يومي المقفى المشفع
تحقق آمالي كما أتوقع أتاك خديم ضارع يتشفع |
ويظهر جليا في هذه اللوحة
الشعرية الجميلة بداية مسيرة التجدد في المدائح النبوية حيث لم نجد في هذا النص
ظاهرة التقليد في المدائح النبوية من مقدمات طللية وغزلية ، وإنما وجدان وعواطف
جياشة, وألفاظ جزلة لا تكلف فيها.
بيد ما في النص من تجاوزات
عقدية واضحة للعيان ، ولكن لا غرو فهي الطابع السائد في المدائح النبوية عند
الشعراء التقليديين, ولاسيما عند الصوفيين الذين تربعوا هذا الفن .
ويأخذ الشعراء التقليديون حيزا
ونطاقا واسعا في الأدب السنغالي ، ولا يمكن ذكرهم جميعا في هذا البحث المتواضع
ولكن يكفينا أن نشير إلى أقطاب وسدنة بيت الشعر في القطر, وعلى رأسهم أحمد بمب
امباكي ثم الحاج مالك سي, ومن لف لفهم من الشعراء التقليديين .
ونقول في ختام هذا المبحث إن
الشعراء التقليديين ساروا في قصائدهم على خطى شعراء المديح في نظام القصيد من حيث
الشكل والمضمون, ولم يحيدوا عنها في أغلب قصائدهم بل كان أكثرها تكرار لشعر هؤلاء
، فكانت العواطف والتجربة الشعرية عندهم غير صادقة بل تتسم بالتكلف والرتابة .
ولكن لا أحد ينكر فضلهم الكبير في
بناء قواعد الشعر العربي في السنغال, وإرساء أشرعته في بحار الشعر المتنوعة,
وأغراضه المترامية .
وكل الأجيال والمدارس الشعرية
الحديثة استفادت من أشعار هؤلاء التقليديين بل أكثرهم نشأوا في أحضانهم, واستفادوا
من تجاربهم من قريب أو بعيد .
وسنذكر في المبحث القادم بعضا
من الشعراء المجددين الذين استفادوا كثيرا من أسلافهم التقليديين ، لكنهم رسموا طريقة
جديدة تختلف عن طريقة أسلافهم التقليديين في نظام القصيد, ومضمونه, وطرقوا نفس
الأغراض الشعرية التي طرقتها أسلافهم, ولكن بثوب قشيب واقعي يواكب عصرهم, ويترجم
مشاعرهم بالطريقة الصحيحة.
المبحث الثاني:الشعراء المجددون.
إذا أطلقنا عبارة (الشعراء المجددون)
فنعني بها شريحة كبيرة من الشعراء الذين تناولوا فن المديح النبوي على الطريقة
التي تواكب عصرهم ، لا على التي سار عليها البوصيري, ومن لف لفه من شعراء عصره في
رصد البديعيات, وجعلها الهدف الأسمى في قصائدهم.
ويتصدر على رأس هذه القائمة
ثلاثة من الشعراء, وهم من أطلقت عليهم شعراء النهضة الأدبية في السنغال, وعلى
أيديهم أصبح الشعر مرآة تعكس حياة المجتمع وأحواله وواقعه ينقد ,ويقوّم بعض
الظواهر, والعادات المجتمعية بأسلوب أدبي جميل ورصين .
وهؤلاء الثلاثة : 1- شيخ تيجان
سي التيواوني ([9])
.2- أحمد جي الكولخي ([10])
3- شيخ تيجان غي اللوغوي ([11]).
فشيخ تيجان سي كان شاعرا ثوريّا
بمعنى الكلمة ، ثوريا في ألفاظه, ومعانيه لا يقف أمام صياغاته, ونسجه الوحيد واقف
، تصوير دقيق ,وموهبة فذة ، يقول في بعض مدائحه الجميلة([12]):
تاهت بنور جمالك الأحلام
وأبى سواك الحق من ذي حقهم فلأنت رب واحد بصفاته |
يا من هو الخلاق والعلام
وأتت تؤيد ملكك الأيام وفعاله بشهادة تعتام |
لم نر في هذه القصيدة الجميلة
ما اعتدناه من الشعراء التقليديين في مقدماتهم الطللية الغزلية بل إنما هي لوحة
فنية بيد رسام ماهر يتلاعب بريشته يثني فيها ربه ويوحده في ربوبيته وألوهيته ،
وتتدرج بطريقة سلسة ذكية من موضوع إلى موضوع آخر في نفس القصيدة إلى أن وصل إلى
قوله :
وهدى به أهل البساط محمد
فاسأل أجبك بأن نور المصطفى فحضارة ما بعدها من مذهب وهداية عمت بغير تفلسف إلى قوله:
من لم يعد محمدا في علمه
صلى عليه الله كل دقيقة |
لتزول عن غاياته الأوهام
طهرت به الأرواح والأجسام وكفاية في نفسها وقوام وأمانة أدى بها الإسلام
فالعلم فيه خسارة وملام
وعلى الألى صلوا عليه وقاموا |
من المنصف أن نصف هذه القصيدة
بالجمال, ويبدو أن الشاعر تضلع وشرب كثيرا من معين الشعر العربي المعاصر, وذلك
ظاهر في أسلوبه, ومعجمه الشعري.
وقد صدق الباحث الموريتاني
الخليل النحوي حين قال في الشعر العربي في السنغال ((هذا الشعر هو قطعة نفيسة من
الشعر العربي في مرابعه الغربية ، وهو قائم على أن خريطة العروبة الثقافية هي أوسع
مما يتصور الكثيرون ، وحري بالغيارى على الثقافة العربية الإسلامية ، وعلى الأدب
العربي بالذات أن يكتشفوا أدبهم في تلك الديار النائية ، ويحتضنوه )) ([13])
.
ولا نذهب بعيدا حتى ينبري شاعر
آخر يطرق أبواب الشعر في كل أغراضه بقوة يدعو إلى أفكار غريبة لم يألفها قومه يدعو
إلى التوحيد, ونبذ الشرك, والبعد عن الطرائق الصوفية (( فإن الشاعر أنكر الطرق
الصوفية برمتها قادرية كانت ، أو تيجانية ، أو مريدية ، وقد ذكر في قصيدته كل ما
حضه على إنكارها بل أعلن توطيد عزمه على سلوكه لسبيل السنة والجماعة وشدة تمسكه
بما فرض الله الأحد في القرآن من الأوامر والنواهي وبما يجب على المسلمين
والمسلمات أن يتبعوا به سنة نبيه محمد صلوات الله وسلامه ..)) ([14])
.
وهذا الشاعر الغريب عند قومه هو
أحمد جي الكولخي, ويعد من المكثرين في فن المديح النبوي, ولكن بطريقة جديدة مواكبة
لعصره, يقول في بعض قصائده المديحية:
من الله في مدح النبي نصوص
سأذكر منها آية بعد آية لقد قال ربي وهو مدح مصرح رؤوف رحيم بالجميع على هدى |
وذلك فيه حرمة وخصوص
إذا كنت ذا فهم فتلك فحوص وليس سوى أن يقتضيه محيص يعم جميع المؤمنين حريص |
ويبدو أن الشاعر متضلع في اللغة
العربية, ومن يقرأ القصيدة يظهر له قوة وجزالة ألفاظه وتألق قافيته ، وتناص معانيه
بمعاني القرآن وألفاظه .
ويتميز بميزة الوسطية في مدائحه
النبوية؛ حيث إنه لم يقع في أودية التطرف والغلو كما وقع فيه غيره من الشعراء.
وثالث الأثافي (شيخ تيجان غي ) وإن
كان أقل شعرية عن سابقيه, وأصغرهما سنا لكنه يحسب له بأنه تجرأ في طرق أبواب من الشعر
لم يسبق إليه مما أدى إلى لمعان نجمه ، حيث تناول في قصائده كثيرا من الظواهر
السيئة التي يعيشها الشعب السنغالي وترجمها في أشعاره المديحية ، يقول في بعض
قصائده:
رسول الله يا خير البرايا
شفيع الناس يوم الهول كن لي وأشياخي وجملة والدينا رسول الله يا خير البرايا رفيع أنت ذو جاه عظيم إلى قوله:
ولو كنا لسنتك في اتباع
لقد كثرت دعاوى الحب فيكم |
ويا من قد حوى خير السجايا
شفيعا جا ومالي من رعايا وإخواني وخلاني في السرايا بلا استثناء من كل الزوايا بشير كافل أهل المزايا
لما انحرف المسالك والنوايا
ولكن التصرف ذو خزايا |
قصيدة مديحية بطريقة جديدة,
وبطرح جديد من شاعر شباب يتألم ويتذمر بالواقع الذي يعيشه أبناء شعبه, وسلوكيات,
وتصرفات بعض من يدّعون حب النبي صلى الله عليه وسلم التي تختلف تماما عن تعاليمه
وسنته الشريفة ، وهذا التناقض العجيب لا شك يؤدي إلى الانحراف في المسالك
والنوايا.
فلم نكن في السابق نرى هذه
الجرأة في تناول بعض الظواهر السيئة التي يعيشها الشعب في قصائد المديح النبوي.
ولا يمكن في هذين المبحثين
السابقين أن نذكر كل الشعراء التقليديين, والمجددين لكننا اخترنا شريحة قليلة من
كلا الطرفين توفرت عندهم الجودة الفنية والفحولة الشعرية ، ولا يعني أن باقي
الشعراء الذين لم يرد أسمائهم في البحث ولم يتم دراسة أشعارهم لا يرقون إلى قمة
الشعر, ولكن طبيعة البحث تقتضي ذلك .
الخاتمة
وبعد هذه الجولة الممتعة في
ميادين الشعر, وحدائقه الخلابة وبالأخص غرض المدائح النبوية التي سطرت فيها
الشعراء التقليديون, والمجددون أروع الصور والتضحيات في حب النبي صلى الله عليه
وسلم, والدفاع عنه ونصرة الإسلام والمسلمين ، بما يحملون من كلمات ومعان ، نخلص إلى النتائج التالية :
1-
اهتمام الشعراء التقليديين بمعارضة ميمية
البوصيري والنسج على منواله .
2-
طغيان
المغالاة في فن المديح النبوي عند شعراء التقليديين.
3-
حشد الألفاظ
الوعرة ، والمعاني الغامضة عند بعض شعراء التقليديين.
4-
الاهتمام
بألوان البديع والتكلف فيها على حساب المعاني.
5-
ندور العاطفة
الصادقة والتجربة الشعرية عند شعراء التقليديين.
6-
ظهور شيء من
التجديد في بعض المعاني لدى الشعراء المجددين.
7-
البعد عن
التقليد في نظام القصيد عند شعراء المجددين.
8-
سهولة الألفاظ
والبعد عن الغرابة والتعقيد عند شعراء المجددين.
وبعد
، فأحسب أن هذه الدراسة قد كشفت القناع عن جانب مهم في الأدب السنغالي ألا وهو
المدائح النبوية حيث تأخذ حيزا واسعا من الدواوين الشعرية وما تضمنته من قيم, وجماليات فنية تستدعي البحث
والاستكشاف.
الباحث : محمد
المصطفى جي الكولخي
([4]) ينظر: ثلاثية البردة بردة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: حسن حسين (المتوفى: معاصر):دار الكتب القطرية – الدوحة .طبعة: الأولى – 1400. ص (13).
([5]) من أكبر زعماء التصوف في
السنغال ومؤسس الطريقة المريدية ، ولد سنة 1853م وقيل سنة : 1855م في قرية امبك بول واسمه : أحمد بن محمد
بن حبيب الله بن محمد ، وتوفي في 19 من تموز 1927م في مدينة جوربيل ، وله من
الدواوين الشيء الكثير . ينظر: من الباقي القديم .محمد بشير امبك . ص (160).
([6]) هو : الحاج مالك بن عثمان بن محمد ولد بعد وفاة والده بشهور
في غايه عام 1855م ويعد من كبار التصوف في السنغال ، إذ يرجع إليه الفضل في نشر الطريقة
التيجانية فيها، وله من المؤلفات (كفاية الراغبين فيما يهدي إلى حضرة رب العالمين
) و (إفحام المنكر الجاني على طريقة الشيخ أحمد التيجاني) وغيرهما وله ديوان ضخم
في المدح ( خلاص الذهب في مدح سيد العجم والعرب) ولقد توفي عام 1922م . ينظر:
تحرير الأقوال في تاريخ السنغال.أحمد هادي توري . طبعة المقطم للنشر والتوزيع
،جمهورية مصر العربية ص (420).
([8]) هو: ماجور كمب سيس ولد في مدينة اندر وقد عاش في القرن
التاسع عشر ، وتوفي في مطلع القرن العشرين ، ينظر: تحرير الأقوال في تاريخ
السنغال. هادي توري.(2/372).